آخر ماتم نشره

الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

الحروفية

الحروفية

لماذا تخاف الموت وأنت عين الخلود؟ كيف تحتار في ظلمة القبر وأنت نور الله؟
 كانت مجموعة دراويش متصوفة يرددون هذه الأبيات للصوفي الشهير جلال الدين الرومي، فوقعت على أذني فتى يجلس في حلقة علم، اسمه فضل الله نعيم الاسترآبادي. اضطرب فضل الله، وبدأ يتسائل حول ما إذا كان الإنسان هو جوهر الخلود ونور الله فعلا؟ وعرف أن هذه الألفاظ لا تعني معانيها الظاهرية، وأنه لكي يعلم معانيها الحقيقية الباطنة، فلابد أن يجتهد ويمارس رياضات تعبدية صوفية شاقة. 

كان ذلك في مقاطعة استرآباد الإيرانية، حيث ولد فضل الله عام 740هـ (1339 - 40 م)، وتحول مع الوقت إلى واحد من الشخصيات التي أثرت بقوة في التاريخ الإسلامي، بعد أن أسس مدرسة روحية قدمت تفسيرات جديدة، غير تقليدية، عن بدء خلق الإنسان ومراحل تطور البشرية، وكيف ستنتهي، كما قدمت تفسيرا لشكل العلاقة بين الله والإنسان، الباحث الباكستاني شاهزاد بشير، أعد دراسة بعنوان "شفرات الكون منذ بدء الخلق حتى نهاية العالم: الحركة الحروفية والروحانيات في العصور الإسلامية الوسطى.

تناول فيها سيرة فضل الله الاسترآبادي والحركة التي أسسها والتي سميت بـ"الحروفية"، والتي كادت أن تسيطر على الدولة العثمانية وهي في أوج قوتها، حيث كان السلطان محمد الفاتح يميل إليها وعلى وشك أن يكون جزءا منها. وتقوم المدرسة الحروفية التي أسسها فضل الله على فك شفرات الكون ومعرفة حقيقته من خلال المعاني الباطنية للحروف اللغوية.

وينقل شاهزاد عن السيرة الحروفية، أن فضل الله ابن "القاضي" نعيم الاسترآبادي قضى فترة في عبادة وانقطاع عن الناس، وبعدها انطلق إلى مكة للحج ثم عاد متنقلا بين عدة مدن في فارس وما حولها، لابسا خرقة التصوف، موغلا في زهده حيث الملبس المتواضع والترفع عن كل الشهوات.

كان له مكانة كبيرة بين المجتمعات التي عاش بها، بين خوارزم وأصفهان وإريز وغيرها..
كما أثقله تعلمه المبكر للأدب، ومعرفته بالعربية بالإضافة للفارسية، أعلن دعوته واستجاب لها 8 مقربون منه، وتوسعت الدائرة لتشمل عددًا أكبر فأكبر في السنوات اللاحقة، ومع اتساع حجم الحركة ظل المجتمع الحروفي مقسما بين مجموعة صغيرة من  الخاصة، وكتلة أكبر من الأتباع العاديين.

أمضى فضل الله الأربعة عشر عاما الأخيرة من حياته في دعوته، متنقلا بين مدن كثيرة في المشرق الإسلامي، وكانت أيامه الأخيرة في مقاطعة شاماخي ( موجودة في أذربيجان الآن)، بعد سجنه هناك بناء على أوامر ابن تيمور لنك. بعض المصادر الحروفية تؤكد أن ميران شاه كان قد أفرج عنه قبل الإعدام واعتذر له عن سجنه، لكن مصادر من خارج الحركة أكدت أن فضل الله دعاه إلى رسالته فرفضها وأعدمه بعد ذلك، بحسب شاهزاد. وقيل إن هاجسا كان لديه حول إعدامه، فقد شاهد حلما سجله في كتاب "نوم نامه"، رأى خلاله أنه يُعدم بناء على أوامر من "المشلول"، واتضح لاحقا أن المقصود به كان "تيمور"،
إعدام فضل الله كان له بعدٌ سياسيٌّ، فهذا الزعيم الروحي صاغ نظرية جديدة حملت تهديداً للنظام الإسلامي السياسي السائد آن ذاك، وصنعت من صاحبها سيداً ، وهو أمر يقلق أي حاكم، إضافة إلى تزايد شعبيته داخل الدولة التيمورية التي امتدت من العراق غرباً إلى حدود الصين شرقاً، ومن الهند جنوبا حتى دول جنوب روسيا الحالية وتركيا.

 تصور الاسترآبادي لبدء الكون، يشير إلى أن الله كان فردا، وكان لديه رغبة في أن يُعرف فخلق الكون في 6 أيام، و خلق الله آدم عليه السلام من طين، عُلِّم أسماء الأشياء، ما يعني أن الله وهبه "العلم"
و" آية "وعلم آدم الأسماء كلها"، بأن الأسماء هي عبارة عن 32 حرفاً استمدت منها الحروفية اسمها.

 ويعتبر الحروفية أن الرسالات السماوية هي لغات فوقية "إلهية" تمثل لبنات في فهم الكون، وأن ما استقبله آدم في لحظة الخلق (32 حرفا) هو القدرة على فهم لغة إلهية، يمكنه من خلالها استيعاب الكون وأسراره. 

كما يعتبر أنصار فضل الله أن جميع البشر لهم القدرة على اكتساب هذه اللغة الإلهية، التي تستطيع فهم ما ورائيات اللغات التقليدية؛ لأنهم جميعا من أصل آدم، وهذا هو الشيء نفسه الذي يميزهم عن جميع المخلوقات الأخرى. وتلك الفكرة تعكسها حقيقة أن فم الإنسان يشتمل على اثنين وثلاثين من الأسنان، وأنه قادر على إنتاج اثنين وثلاثين صوتاً متبايناً. ولذلك اعتبر فضل الله أن اللغة الفارسية بحروفها الاثنين والثلاثين هي الأقرب لقيمة مساوية بين اللغات العادية واللغة الفوقية الإلهية، إن أسبقية اللغة للخيال والفهم، باعتبارها سبقت خلق آدم، يمكن فهمها بسهولة؛ لأن الأفكار المجردة لا يمكن فصلها عن اللغة، حتى جوهر الأشياء المادية، يكمن في المفهوم اللغوي الذي يشملها وليس في وجودها العنصري. الاستنتاج الأكثر أهمية ، هو أن الكون في الأساس حدث لغوي، وباعتبار أن الله هو الخالق فهو مالك اللغة الفوقية، ومكن بعض البشر من الحصول عليها.
نشط الحروفيون وقادتهم ابنة فضل الله " التي قُمعت أنشطتها وقتلت في تبريز على يد جهان شاه حاكم كاراكويونلو. بعد مقتل ابنة فضل الله، نقل الحروفيون نشاطهم إلى الدولة العثمانية الفتية في هذا الوقت، ووصلوا إلى السلطان محمد الفاتح الذي اهتم بمذهبهم، ما تسبب في قلق صدر الدولة الأعظم محمود باشا أنيلوفيتش، وخاف الأخير أن يتكلم عنهم بسوء كي لا يغضب منه السلطان فلجأ إلى حيلة.
تعرض الحروفيون على إثرها للإبادة وبعد هذه النكسة تشتت أتباع فضل الله الاسترآبادي ولكنهم وجدوا مأوى لهم داخل الطريقة الصوفية البتكاشية في تركيا، والتي صارت الحروفية جزءا من عقيدتها حتى الآن.



اعلان 1
اعلان 2

0 comments :

إرسال تعليق

عربي باي